حين يتراجع القانون.. انسحاب دول الساحل من "الجنائية الدولية" تهديد مباشر للمدنيين

حين يتراجع القانون.. انسحاب دول الساحل من "الجنائية الدولية" تهديد مباشر للمدنيين
المحكمة الجنائية الدولية

في الثاني والعشرين من سبتمبر الجاري، أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر قرارها بالانسحاب المشترك من المحكمة الجنائية الدولية، في خطوة وصفتها منظمات حقوقية بأنها تهدد مسار العدالة الدولية وتفتح الباب أمام تفاقم الانتهاكات ضد المدنيين.

 بحسب تقرير نشرته "هيومن رايتس ووتش"، الأربعاء، اعتبر الإعلان الذي جاء في بيان مشترك، صادماً للضحايا وأسرهم الذين لطالما اعتبروا المحكمة الجنائية الدولية الملاذ الأخير بعد عجز المحاكم الوطنية عن تحقيق العدالة.

المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست عام 2002 بموجب نظام روما الأساسي، تمثل أول هيئة قضائية دائمة مختصة بمحاكمة جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، يضم نظامها الأساسي اليوم 125 دولة، وقد فتحت المحكمة منذ نشأتها تحقيقات في 17 ملفاً، من أفغانستان إلى دارفور وليبيا وفلسطين وأوكرانيا، وفي السياق الإفريقي لعبت المحكمة دوراً حاسماً في ملفات مثل مالي، حيث أصدرت إدانات تاريخية بحق قادة جماعات مسلحة تورطوا في تدمير مواقع تاريخية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

أزمات متشابكة في الساحل

انسحاب هذه الدول الثلاث يأتي في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب، فالساحل يعيش منذ عقد صراعاً مع جماعات مرتبطة بالقاعدة وتنظيم داعش، ارتكبت بدورها انتهاكات واسعة النطاق شملت قتل المدنيين، ومهاجمة المدارس والمساجد، وفرض حصارات خانقة على المدن، من جهة أخرى واجهت قوات الأمن المحلية، مدعومة أحياناً بميليشيات وجنود أجانب، اتهامات بارتكاب عمليات قتل جماعي واعتقالات تعسفية وتشريد قسري لمئات الآلاف من السكان.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 3 ملايين شخص نزحوا داخلياً في دول الساحل الثلاث حتى منتصف 2025 بسبب النزاعات المسلحة، كما يحتاج أكثر من 16 مليون مدني إلى مساعدات إنسانية عاجلة، نصفهم تقريباً من الأطفال، انسحاب هذه الدول من المحكمة الجنائية الدولية يُفقد الضحايا أداة قانونية لمحاسبة الجناة، ما يفاقم حالة الإفلات من العقاب ويزيد من معاناة المجتمعات المحلية التي تعيش بالفعل في ظروف هشّة.

الإفلات من العقاب يتوسع

منذ وصول الأنظمة العسكرية إلى السلطة في أعقاب انقلابات متتالية منذ عام 2020، شهدت المنطقة تراجعاً حاداً في الحريات السياسية والإعلامية وتضييقاً متزايداً على المجتمع المدني، وتشير التقارير الحقوقية إلى غياب أي إرادة رسمية للتحقيق في الانتهاكات التي ترتكبها القوات الحكومية أو الجماعات المسلحة، وهو ما جعل المحكمة الجنائية الدولية واحدة من الأدوات القليلة المتاحة لتحقيق العدالة.

ليز إيفنسون، مديرة قسم العدالة الدولية في هيومن رايتس ووتش، علّقت قائلة إن قرار الانسحاب يحرم الشعوب من آلية دولية أساسية، ويضعف مبدأ المساءلة في منطقة تزداد فيها الانتهاكات.

انسحابات تكررت عبر التاريخ

ليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها المحكمة الجنائية الدولية انسحابات سياسية، فقد غادرت بوروندي عضوية المحكمة عام 2017، تبعتها الفلبين في 2019 بعد فتح تحقيق في جرائم قتل خارج نطاق القانون، إلا أن المحكمة واصلت ملاحقة المسؤولين، حيث سلمت مانيلا الرئيس السابق رودريغو دوتيرتي إلى المحكمة في مارس 2025 لمحاكمته بتهم جرائم ضد الإنسانية، هذا يبرز أن الانسحاب لا يضمن الإفلات من المساءلة، لكنه يعرقل جهود التعاون القضائي الدولي.

وفقاً لنظام روما الأساسي، لا يصبح الانسحاب نافذاً إلا بعد عام من إخطار رسمي يُوجّه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وحتى ذلك الحين، تظل الدول ملزمة بالتعاون مع المحكمة في القضايا المفتوحة، هذه المهلة تمنح المجتمع الدولي فرصة لممارسة الضغوط الدبلوماسية والسياسية لإقناع الأنظمة العسكرية في بوركينا فاسو ومالي والنيجر بالعدول عن القرار أو على الأقل ضمان التزامات بديلة لحماية المدنيين.

منظمات حقوقية دولية، بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، أبدت قلقاً بالغاً من الانسحاب، مؤكدة أن المحاكم الوطنية في هذه الدول عاجزة عن تحقيق العدالة المستقلة، والاتحاد الإفريقي لم يصدر بعد موقفاً واضحاً، لكن مراقبين يتوقعون أن يلعب دوراً محورياً في حث حكومات المنطقة على احترام التزاماتها الدولية، الأمم المتحدة من جانبها دعت إلى "إبقاء أبواب العدالة مفتوحة أمام الضحايا"، مشيرة إلى أن السلام المستدام في الساحل مرهون بإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب.

انعكاسات سياسية إقليمية

خطوة الانسحاب تأتي بعد أشهر قليلة من انسحاب الدول الثلاث من المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس)، ما عزلها أكثر عن الأطر الإقليمية التي تتيح سبل الانتصاف للضحايا، ويرى مراقبون في ذلك مسعى من الأنظمة العسكرية لتقليص أي رقابة دولية أو إقليمية على أدائها، خصوصاً في ظل تزايد الانتقادات لسجلها الحقوقي وتراجع التزاماتها بالانتقال الديمقراطي.

القصص الإنسانية من المنطقة تعكس حجم المأساة، قرى بأكملها أُحرقت، وأسر شُردت بلا مأوى، وأطفال حُرموا من التعليم لأعوام، وفي ظل انسحاب الدول الثلاث من المحكمة الجنائية الدولية، تتقلص فرص هؤلاء الضحايا في المطالبة بالعدالة أو التعويض، لتبقى جراحهم مفتوحة دون إنصاف.

منذ عام 2012، حين أحالت الحكومة المالية ملفها إلى المحكمة، باشرت الأخيرة تحقيقات واسعة، أبرزها قضية أحمد الفقي المحدي، الذي أُدين في 2016 بتدمير مواقع دينية في تمبكتو، والحسن أغ عبد العزيز، الذي أدين عام 2024 بجرائم تعذيب وجرائم ضد الإنسانية، كما أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال ضد إياد أغ غالي، زعيم جماعة متطرفة، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، هذه القضايا شكلت سابقة مهمة في إرساء العدالة في المنطقة، ويعني الانسحاب عملياً تجميد إمكانية توسيع مثل هذه المحاكمات مستقبلاً.

قرار بوركينا فاسو ومالي والنيجر الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية يعكس تصاعد النزعة الانعزالية للأنظمة العسكرية الحاكمة في الساحل، ويضع المدنيين في مواجهة خطر أكبر من الانتهاكات دون ضمانات للعدالة، المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي إما الضغط للحفاظ على عضوية هذه الدول في المحكمة، أو البحث عن آليات بديلة تضمن للضحايا حقوقهم، ما هو مؤكد أن غياب العدالة لن يؤدي إلا إلى استمرار دوامة العنف في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة واضطراباً. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية